فصل: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَا قُدِّمَ وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.الْقَوْلُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ:

هُوَ أَحَدُ أَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ فَإِنَّهُمْ أَتَوْا بِهِ دَلَالَةً عَلَى تَمَكُّنِهِمْ فِي الْفَصَاحَةِ وَمَلَكَتِهِمْ فِي الْكَلَامِ وَانْقِيَادِهِ لَهُمْ وَلَهُ فِي الْقُلُوبِ أَحْسَنُ مَوْقِعٍ وَأَعْذَبُ مَذَاقٍ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عَدِّهِ مِنَ الْمَجَازِ فَمِنْهُمْ مَنْ عَدَّهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ تَقْدِيمُ مَا رُتْبَتُهُ التَّأْخِيرُ كَالْمَفْعُولِ وَتَأْخِيرُ مَا رُتْبَتُهُ التَّقْدِيمُ كَالْفَاعِلِ نُقِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ رُتْبَتِهِ وَحَقِّهِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ فَإِنَّ الْمَجَازَ نَقْلُ مَا وُضِعَ لَهُ إِلَى مَا لَمْ يُوضَعْ.
وَيَقَعُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي فَصُولٍ.

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: في أسباب التقديم والتأخير:

الْأَوَّلُ: فِي أَسْبَابِهِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ أَصْلَهُ التَّقْدِيمُ وَلَا مُقْتَضًى لِلْعُدُولِ عَنْهُ كَتَقْدِيمِ الْفَاعِلِ عَلَى الْمَفْعُولِ وَالْمُبْتَدَأِ عَلَى الْخَبَرِ وَصَاحِبِ الْحَالِ عَلَيْهَا نَحْوَ جَاءَ زَيْدٌ رَاكِبًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي التَّأْخِيرِ إِخْلَالٌ بِبَيَانِ الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يكتم إيمانه}، فَإِنَّهُ لَوْ أَخَّرَ قَوْلَهُ: {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} فَلَا يُفْهَمُ أَنَّهُ مِنْهُمْ.
وَجَعَلَ السَّكَّاكِيُّ مِنَ الْأَسْبَابِ كَوْنَ التَّأْخِيرِ مَانِعًا مِثْلَ الْإِخْلَالِ بِالْمَقْصُودِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدنيا} بتقديم الحال أعني {من قومه} على الوصف أعني {الذين كفروا} وَلَوْ تَأَخَّرَ لَتُوُهِّمَ أَنَّهُ مِنْ صِفَةِ الدُّنْيَا لِأَنَّهَا هَاهُنَا اسْمُ تَفْضِيلٍ مِنَ الدُّنُوِّ وَلَيْسَتِ اسْمًا وَالدُّنُوُّ يَتَعَدَّى بِـ: (مِنْ) وَحِينَئِذٍ يَشْتَبِهُ الْأَمْرُ فِي الْقَائِلِينَ أَنَّهُمْ أَهُمْ مِنْ قَوْمِهِ أَمْ لَا فَقَدَّمَ لِاشْتِمَالِ التَّأْخِيرِ عَلَى الْإِخْلَالِ بِبَيَانِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ كَوْنُ الْقَائِلِينَ مِنْ قَوْمِهِ وَحِينَ أُمِنَ هَذَا الْإِخْلَالُ بِالتَّأْخِيرِ قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هذا إلا بشر مثلكم} بِتَأْخِيرِ الْمَجْرُورِ عَنْ صِفَةِ الْمَرْفُوعِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي التَّأْخِيرِ إِخْلَالٌ بِالتَّنَاسُبِ فَيُقَدَّمَ لِمُشَاكَلَةِ الْكَلَامِ وَلِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ كَقَوْلِهِ: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون}، بِتَقْدِيمِ (إِيَّاهُ) عَلَى (تَعْبُدُونَ) لِمُشَاكَلَةِ رُءُوسِ الْآيِ وكقوله: {فأوجس في نفسه خيفة موسى} فإنه لو أخر {في نفسه} عن {موسى} فَاتَ تَنَاسُبُ الْفَوَاصِلِ لِأَنَّ قَبْلَهُ: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ من سحرهم أنها تسعى} وبعده،: {إنك أنت الأعلى}.
وكقوله: {وتغشى وجوههم النار} فَإِنَّ تَأْخِيرَ الْفَاعِلِ عَنِ الْمَفْعُولِ لِمُنَاسَبَتِهِ لِمَا بعده.
وكقوله: {إن الله سريع الحساب}، وَهُوَ أَشْكَلُ بِمَا قَبْلَهُ لِأَنَّ قَبْلَهُ: {مُقَرَّنِينَ في الأصفاد}.
وَجَعَلَ مِنْهُ السَّكَّاكِيُّ: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} بتقديم (هارون) مع أن (موسى) أَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ.
الرَّابِعُ: لِعِظَمِهِ وَالِاهْتِمَامِ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ الْفُصَحَاءِ إِذَا أَخْبَرَتْ عَنْ مُخْبَرٍ مَا- وَأَنَاطَتْ بِهِ حُكْمًا- وَقَدْ يُشْرِكُهُ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ أَوْ فِيمَا أُخْبِرَ بِهِ عَنْهُ وَقَدْ عَطَفَتْ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِالْوَاوِ الْمُقْتَضِيَةِ عَدَمَ التَّرْتِيبِ- فَإِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ إِنَّمَا يَبْدَءُونَ بِالْأَهَمِّ وَالْأَوْلَى. قَالَ سِيبَوَيْهِ: كَأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الَّذِي شَأْنُهُ أَهَمُّ لَهُمْ وَهُمْ بِبَيَانِهِ أَعْنَى وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا يُهِمَّانِهِمْ وَيَعْنِيَانِهِمْ. انْتَهَى.
قَالَ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ.
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَأَطِيعُوا الله وأطيعوا الرسول}.
وقال تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين}، فَقَدَّمَ الْعِبَادَةَ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا.
وَمِنْهُ تَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ فِي بِسْمِ اللَّهِ مُؤَخَّرًا.
وَأَوْرَدُوا: {اقْرَأْ بِاسْمِ ربك}، وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَقْدِيمَ الْفِعْلِ هُنَاكَ أَهَمُّ لِأَنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ.
وَالثَّانِي: أَنْ باسم ربك مُتَعَلِّقٌ بِـ: (اقْرَأِ) الثَّانِي وَمَعْنَى الْأَوَّلِ أَوْجِدِ الْقِرَاءَةَ وَالْقَصْدُ التَّعْمِيمُ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْخَاطِرُ مُلْتَفَتًا إِلَيْهِ وَالْهِمَّةُ مَعْقُودَةٌ بِهِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تعالى: {وجعلوا لله شركاء}، بِتَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْإِنْكَارَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْجَعْلِ لِلَّهِ لَا إِلَى مُطْلَقِ الْجَعْلِ.
السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيمُ لِإِرَادَةِ التَّبْكِيتِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الْمَذْكُورِ كَتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شركاء الجن}، وَالْأَصْلُ (الْجِنَّ شُرَكَاءَ)، وَقُدِّمَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّوْبِيخُ وَتَقْدِيمُ الشُّرَكَاءِ أَبْلَغُ فِي حُصُولِهِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يس: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} وَسَنَذْكُرُهُ.
السَّابِعُ: الِاخْتِصَاصُ، وَذَلِكَ بِتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ وَالْخَبَرِ والظرف والجار والمجرور ونحوها على الفعل كقوله تعالى: {إياك نعبد}، أَيْ نَخُصُّكَ بِالْعِبَادَةِ فَلَا نَعْبُدُ غَيْرَكَ.
وَقَوْلِهِ: {إن كنتم إياه تعبدون} أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَخُصُّونَهُ بِالْعِبَادَةِ.
وَالْخَبَرُ كَقَوْلِهِ: {قال أراغب أنت عن آلهتي}، وَقَوْلِهِ: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ}.
وَأَمَّا تَقْدِيمُ الظَّرْفِ، فَفِيهِ تَفْصِيلٌ فَإِنْ كَانَ فِي الْإِثْبَاتِ دَلَّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}، وكذلك: {له الملك وله الحمد}، فَإِنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ اخْتِصَاصَ ذَلِكَ بِاللَّهِ تَعَالَى: وقوله: {لإلى الله تحشرون}.
أي لا إلى غيره وَقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} أُخِّرَتْ صِلَةُ الشَّهَادَةِ فِي الْأَوَّلِ وَقُدِّمَتْ فِي الثَّانِي لِأَنَّ الْغَرَضَ فِي الْأَوَّلِ إِثْبَاتُ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْأُمَمِ وَفِي اخْتِصَاصِهِمْ بِكَوْنِ الرَّسُولِ شَهِيدًا عليهم.
وقوله: {وأرسلناك للناس رسولا} أَيْ لِجَمِيعِ النَّاسِ مِنَ الْعَجَمِ وَالْعَرَبِ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيفَ لِلِاسْتِغْرَاقِ.
وَإِنْ كَانَ فِي النَّفْيِ فَإِنَّ تَقْدِيمَهُ يُفِيدُ تَفْضِيلَ الْمَنْفِيَّ عَنْهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هم عنها ينزفون}، أَيْ لَيْسَ فِي خَمْرِ الْجَنَّةِ مَا فِي خَمْرَةِ غَيْرِهَا مِنَ الْغَوْلِ وَأَمَّا تَأْخِيرُهُ فَإِنَّهَا تُفِيدُ النَّفْيَ فَقَطْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {لَا ريب فيه} فكذلك إذا قلنا لاعيب فِي الدَّارِ كَانَ مَعْنَاهُ نَفْيَ الْعَيْبِ فِي الدَّارِ وَإِذَا قُلْنَا لَا فِي الدَّارِ عَيْبٌ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا تُفَضَّلُ عَلَى غَيْرِهَا بِعَدَمِ الْعَيْبِ.
تَنْبِيهٌ:
مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ فَهِمَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ فِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ مُحَقِّقُو الْبَيَانِيِّينَ أَنَّ ذَلِكَ غَالِبٌ لَا لَازِمٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قبل} وقوله: {أفي الله شك} إِنْ جَعَلْنَا مَا بَعْدَ الظَّرْفِ مُبْتَدَأً.
وَقَدْ رَدَّ صَاحِبُ (الْفَلَكِ الدَّائِرِ) الْقَاعِدَةَ بِالْآيَةِ الْأُولَى وَكَذَلِكَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ وَخَالَفُوا الْبَيَانِيِّينَ فِي ذَلِكَ وَأَنْتَ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهُمْ.
ذَكَرُوا فِي ذَلِكَ قَيْدَ الْغَلَبَةِ سَهُلَ الْأَمْرُ. نَعَمْ لَهُ شَرْطَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَلَّا يَكُونَ الْمَعْمُولُ مُقَدَّمًا بِالْوَضْعِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى تَقْدِيمًا حَقِيقَةً كَاسْمِ الِاسْتِفْهَامِ وَكَالْمُبْتَدَأِ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُهُ مَعْمُولًا لِخَبَرِهِ.
وَالثَّانِي: أَلَّا يَكُونَ التَّقْدِيمُ لِمَصْلَحَةِ التركيب مثل: {وأما ثمود فهديناهم} عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ.
وَقَدِ اجْتَمَعَ الِاخْتِصَاصُ وَعَدَمُهُ في آية واحدة وهي قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إياه تدعون فيكشف}، التَّقْدِيمُ فِي الْأَوَّلِ قَطْعًا لَيْسَ لِلِاخْتِصَاصِ بِخِلَافِ الثَّانِي.

.الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي أَنْوَاعِهِ:

وَهِيَ إِمَّا أَنْ يُقَدَّمَ وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ أَوْ يُقَدَّمَ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُؤَخَّرٌ أَوْ بِالْعَكْسِ.

.النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَا قُدِّمَ وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ:

وَمُقْتَضَيَاتُهُ كَثِيرَةٌ قَدْ يَسَّرَ اللَّهُ مِنْهَا خَمْسًا وَعِشْرِينَ وَلِلَّهِ دَرُّ ابْنِ عَبْدُونٍ فِي قَوْلِهِ:
سَقَاكَ الْحَيَا مِنْ معان سِفَاحِ ** فَكَمْ لِي بِهَا مِنْ مَعَانٍ فِصَاحِ

.أَحَدُهَا: السَّبْقُ:

وَهُوَ أَقْسَامٌ: مِنْهَا السَّبْقُ بِالزَّمَانِ وَالْإِيجَادِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ للذين اتبعوه وهذا النبي} قال ابن عطية: المراد بالذين اتَّبَعُوهُ فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ.
وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ يَصْطَفِي من الملائكة رسلا ومن الناس} فَإِنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ تَفْضِيلُ الْبَشَرِ وَإِنَّمَا قدم الملك لسبقه في الوجود.
وقوله: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك} فَإِنَّ الْأَزْوَاجَ أَسْبَقُ بِالزَّمَانِ لِأَنَّ الْبَنَاتِ أَفْضَلُ مِنْهُنَّ لِكَوْنِهِنَّ بَضْعَةً مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قرة أعين}.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَنْضَمُّ إِلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ التَّشْرِيفُ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وآل عِمْرَانَ}.
وَقَوْلِهِ: {وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى}.
{صحف إبراهيم وموسى}.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صحف موسى وإبراهيم الذي وفى} فَإِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ مُوسَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي سِيَاقِ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بِالتَّرْكِ وَكَانَتْ صُحُفُ مُوسَى مُنْتَشِرَةً أَكْثَرَ انْتِشَارًا مِنْ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ. وَثَانِيهِمَا: مُرَاعَاةُ رُءُوسِ الْآيِ.
وَقَدْ يَنْضَمُّ إِلَيْهِ التَّحْقِيرُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين}، تَقَدَّمَ الْيَهُودُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَسْبَقَ مِنَ النَّصَارَى وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُجَاوَرَةِ.
وَقَدْ لَا يُلْحَظُ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وقد تبين لكم من مساكنهم} وَقَوْلِهِ: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أبقى}.
وَمِنَ التَّقْدِيمِ بِالْإِيجَادِ تَقْدِيمُ السِّنَةِ عَلَى النَّوْمِ في قوله: {تأخذه سنة ولا نوم} لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي الْبَشَرِ أَنْ تَأْخُذَ الْعَبْدَ السِّنَةُ قَبْلَ النَّوْمِ فَجَاءَتِ الْعِبَارَةُ عَلَى حَسَبِ هَذِهِ الْعَادَةِ.
ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ وَذَكَرَ مَعَهُ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي مَعْرِضِ التَّمَدُّحِ والثناء وافتقاد السنة أبلغ في التنزيه فبدئ بِالْأَفْضَلِ لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَحَالَتْ عَلَيْهِ السِّنَةُ فَأَحْرَى أَنْ يَسْتَحِيلَ عَلَيْهِ النَّوْمُ.
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الظُّلْمَةِ عَلَى النُّورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ والنور} فَإِنَّ الظُّلُمَاتِ سَابِقَةٌ عَلَى النُّورِ فِي الْإِحْسَاسِ وَكَذَلِكَ الظُّلْمَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ سَابِقَةٌ عَلَى النُّورِ الْمَعْنَوِيِّ قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ والأفئدة} فَانْتِفَاءُ الْعِلْمِ ظُلْمَةٌ وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ بِالزَّمَانِ عَلَى نُورِ الْإِدْرَاكَاتِ.
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ: {وجعلنا الليل والنهار آيتين} {سيروا فيها ليالي وأياما آمنين} {بل مكر الليل والنهار} {حين تمسون وحين تصبحون} وَلِذَلِكَ اخْتَارَتِ الْعَرَبُ التَّارِيخَ بِاللَّيَالِي دُونَ الْأَيَّامِ وَإِنْ كَانَتِ اللَّيَالِي مُؤَنَّثَةً وَالْأَيَّامُ مُذَكَّرَةً وَقَاعِدَتُهُمْ تَغْلِيبُ الْمُذَكَّرِ إِلَّا فِي التَّارِيخِ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النهار}.
قُلْتُ: اسْتَشْكَلَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ السلام في قواعده بِالْإِجْمَاعِ عَلَى سَبْقِ اللَّيْلَةِ عَلَى الْيَوْمِ وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمَعْنَى: تُدْرِكُ الْقَمَرَ فِي سُلْطَانِهِ وَهُوَ اللَّيْلُ أَيْ لَا تَجِيءُ الشَّمْسُ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ فَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وكل في فلك يسبحون} أي لا يأتي فِي بَعْضِ سُلْطَانِ الشَّمْسِ وَهُوَ النَّهَارُ وَبَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ مُقَابَلَةٌ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} مُشْكِلٌ عَلَى هَذَا لِأَنَّ الْإِيلَاجَ إِدْخَالُ الشَّيْءِ في وَهَذَا الْبَحْثُ يُنَافِيهِ.
قُلْتُ: الْمَشْهُورُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ يَزِيدُ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ مِقْدَارًا مِنَ النَّهَارِ وَمِنَ النَّهَارِ فِي الصَّيْفِ مِقْدَارًا مِنَ اللَّيْلِ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: يُولِجُ بَعْضَ مِقْدَارِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ وَبَعْضَ مِقْدَارِ النَّهَارِ فِي اللَّيْلِ وَعَلَى غَيْرِ الْمَشْهُورِ يَجْعَلُ اللَّيْلَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ النَّهَارُ وَيَجْعَلُ النَّهَارَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ اللَّيْلُ وَالتَّقْدِيرُ: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي مَكَانِ النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي مَكَانِ اللَّيْلِ.
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْمَكَانِ عَلَى الزَّمَانِ فِي قَوْلِهِ: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وجعل الظلمات والنور} أَيِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَقَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فلك يسبحون}.
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ قَلَّ مَنْ تَعَرَّضَ لَهَا أَعْنِي سَبْقَ الْمَكَانِ عَلَى الزَّمَانِ وَقَدْ صَرَّحَ بِهَا الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ فِي أَوَّلِ تَارِيخِهِ وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ وَخَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ وَلَا لَيْلَ وَلَا نَهَارَ إِذْ كَانَا إِنَّمَا هُمَا أَسْمَاءٌ لِسَاعَاتٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ قَطْعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ (دَرَجَ الْفَلَكِ) وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا وَأَنَّهُ لَا شَمْسَ وَلَا قَمَرَ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَا لَيْلَ وَلَا نَهَارَ قَالَ: وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ- يَعْنِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ- صَرِيحٌ فِيهِ فَإِنَّ فِيهِ: «وَخَلَقَ (اللَّهُ) النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ» قَالَ: وَيَعْنِي بِهِ الشَّمْسَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَأَخُّرَ خَلْقِ الْأَيَّامِ عَنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْخَبَرِ لَازِمٌ.
فَإِنْ قُلْتَ: الْحَدِيثُ كَالْمُصَرِّحِ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ قَالَ خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ حِينَ خَلَقَ الْبَرِّيَّةَ وَهِيَ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَذْكُورَةِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ الْأَيَّامِ كُلِّهَا مُتَأَخِّرًا عَنْ ذَلِكَ.
قُلْتُ: قَدْ نَبَّهَ الطَّبَرِيُّ عَلَى جَوَابِ ذَلِكَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى أَسْمَاءَ الْأَيَّامِ قَبْلَ خَلْقِ التُّرْبَةِ وَخَلَقَ الْأَيَّامَ كُلَّهَا ثُمَّ قَدَّرَ كُلَّ يَوْمٍ مِقْدَارًا فَخَلَقَ التُّرْبَةَ فِي مِقْدَارِ يَوْمِ السَّبْتِ قَبْلَ خَلْقِهِ يَوْمَ السَّبْتِ وَكَذَا الْبَاقِي.
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ لَكِنْ أَوْجَبَهُ مَا قَالَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ تأخير الْأَيَّامِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْخَبَرَيْنِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الزَّمَانَ قِسْمَانِ تَحْقِيقِيٌّ وَتَقْدِيرِيٌّ وَالْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ التَّقْدِيرِيُّ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ}، {مشارق الأرض ومغاربها}، وَلِذَلِكَ لَمَّا اسْتَغْنَى عَنْ أَحَدِهِمَا ذَكَرَ الْمَشْرِقَ فقد فقال: {ورب المشارق} {إنا زينا السماء الدنيا}.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} وقوله: {وأنه هو أمات وأحيا} {وكنتم أمواتا فأحياكم}.
وَيُمْكِنُ فِيهِ وُجُوهٌ أُخَرُ:
مِنْهَا: أَنَّ فِيهِ قَهْرًا لِلْخَلْقِ وَالْمَقَامُ يَقْتَضِيهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ حَيَاةَ الإنسان كلاحياة وَمَآلُهُ إِلَى الْمَوْتِ وَلَا حَيَاةَ إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَوْتَ تَقَدَّمَ فِي الْوُجُودِ إِذِ الْإِنْسَانُ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ كَانَ مَيِّتًا لِعَدَمِ الرُّوحِ.
وَهَذَا إِنْ أُرِيدَ بِالْمَوْتِ عدم الوجود بدليل {وكنتم أمواتا فأحياكم} وإن أريد به بعد الوجود فالناس منتازعون فِي الْمَوْتِ هَلْ هُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ كَالْحَيَاةِ أولا؟.
وَقِيلَ بِالْوَقْفِ، فَقَالَتِ الْفَلَاسِفَةُ: الْمَوْتُ عَدَمُ الْحَيَاةِ عَمَّا مَنْ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ حَيًّا.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ يُضَادُّ الْحَيَاةَ مُحْتَجِّينَ بقوله: {الذي خلق الموت والحياة} وَالْحَدِيثُ فِي الْإِتْيَانِ بِالْمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ وَذَبْحِهِ.
وَأُجِيبَ عَنِ الْآيَةِ بِأَنَّ الْخَلْقَ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ، وَلَا يَجِبُ فِي الْمُقَدَّرِ أَنْ يَكُونَ وُجُودِيًّا وَعَنِ الثَّانِي بِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ لِبَيَانِ انْقِطَاعِ الْمَوْتِ وَثُبُوتِ الْخُلُودِ.
فَإِنْ قُلْنَا: عَدَمِيٌّ، فَالتَّقَابُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَيَاةِ تَقَابُلُ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ وَعَلَى الصَّحِيحِ تَقَابُلُ التَّضَادِّ وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ وُجُودِيٌّ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ تَقْدِيمُ الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الْوُجُودِ، لِكَوْنِهِ سَابِقًا أَوْ مَعْدُومَ الْحَيَاةِ الَّذِي هُوَ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ الْبَدَنِيَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِهِ الغاية التي يساق إليها فِي دَارِ الدُّنْيَا فَهِيَ الْعِلَّةُ الْغَائِبَةُ بِعَدَمِ تحقيقها لتحقق فَخَصَّ الْعِلَّةَ الْعَامَّةَ كَمَا وَقَعَ تَأْكِيدُهُ فِي قوله: {ثم إنكم بعد ذلك لميتون} أَوْ تَزْهِيدًا فِي الدَّارِ الْفَانِيَةِ وَتَرْغِيبًا فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا وَجْهُ تَقَدُّمِ (الحياة) في قوله: {فيها تحيون وفيها تموتون} وقوله: {ومحياي ومماتي لله رب العالمين}؟.
قُلْنَا: إِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ فَلِأَنَّ حَيَاتَهُمَا فِي الدُّنْيَا سَبَقَتِ الْمَوْتَ وَإِنْ كَانَ لِلْخَلْقِ بِالْخِطَابِ لِمَنْ هُوَ حَيٌّ يَعْقُبُهُ الْمَوْتُ فَمَا التَّقْدِيمُ بِالتَّرْتِيبِ وَكَذَا الْآيَةُ بَعْدَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا وَجْهُ تَقْدِيمِ الْمَوْتِ عَلَى الْحَيَاةِ في الحكاية عن منكر البعث: {إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا}؟.
قُلْتُ: لِأَجْلِ مُنَاسَبَةِ رُءُوسِ الْآيِ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا وَجْهُ تَقَدُّمِ التَّوَفِّي عَلَى الرَّفْعِ فِي قوله: {إني متوفيك ورافعك إلي} مَعَ أَنَّ الرَّفْعَ سَابِقٌ؟.
قِيلَ: فِيهِ جَوَابَانِ:
أحدهما: المراد بالتوفي النوم، كقوله تعالى: {يتوفاكم بالليل}.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ التَّاءَ فِي (مُتَوَفِّيكَ) زَائِدَةٌ أَيْ موفيك عملك.
ومنها سبق إنزال، كقوله: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وأنزل الفرقان}. وَقَوْلِهِ: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ}.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إليهم} فَإِنَّمَا قَدَّمَ الْقُرْآنَ مُنَبِّهًا لَهُ عَلَى فَضِيلَةِ الْمُنَزَّلِ إِلَيْهِمْ.
وَمِنْهَا سَبْقُ وُجُوبٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اركعوا واسجدوا} وقوله: {تراهم ركعا سجدا}.
فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الراكعين}.
قِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَتِهِمُ السُّجُودُ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالرُّكُوعِ رُكُوعُ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِـ: (ارْكَعِي) اشْكُرِي.
وَقِيلَ: أَرَادَ بِـ: (اسْجُدِي) صَلِّي وَحْدَكِ. وَبِـ: (ارْكَعِي) صَلِّي فِي جَمَاعَةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {مَعَ الراكعين}.
وَمِنْهَا سَبْقُ تَنْزِيهٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه} فَبَدَأَ بِالرَّسُولِ قَبْلَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ قَالَ: {كُلٌّ آمن بالله وملائكته} فَبَدَأَ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَالْعَقْلُ سَابِقٌ فِي الْوُجُودِ عَلَى الشَّرْعِ ثُمَّ قَالَ: (وَمَلَائِكَتِهِ) مُرَاعَاةً لِإِيمَانِ الرَّسُولِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَلَكِ الَّذِي هُوَ جِبْرِيلُ أَوَّلًا ثُمَّ بِالْكِتَابِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ ثُمَّ بِمَعْرِفَةِ نَفْسِهِ أَنَّهُ رَسُولٌ. وَإِنَّمَا عَرَفَ نُبُوَّةَ نَفْسِهِ بعد معرفته بجبريل عليه السلام وإيمانه فَتَرَتَّبَ الذِّكْرُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ فَظَهَرَتِ الْحِكْمَةُ وَالْإِعْجَازُ فَقَالَ: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وكتبه ورسله} لِأَنَّ الْمَلَكَ هُوَ النَّازِلُ بِالْكِتَابِ وَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ أَقْدَمَ مِنَ الْمَلَكِ وَلَكِنَّ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَلَكِ كَانَتْ قَبْلَ سَمَاعِهِ الْكِتَابَ وَأَمَّا إِيمَانُنَا نَحْنُ بِالْعَقْلِ آمَنَّا بالله أي بِوُجُودِهِ وَلَكِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم عرفنا اسمه وجوب النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَتِهِ فَآمَنَّا بِالرَّسُولِ ثُمَّ بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ وَبِالْمَلَكِ النَّازِلِ بِهِ فَلَوْ تَرَتَّبَ اللَّفْظُ عَلَى حَسَبِ إِيمَانِنَا لَبَدَأَ بِالرَّسُولِ قَبْلَ الْكِتَابِ وَلَكِنْ إِنَّمَا تَرَتَّبَ عَلَى حَسَبِ إِيمَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ إِمَامُ الْمُؤْمِنِينَ. ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ فِي أَمَالِيهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: فِي هَذَا التَّرْتِيبِ سِرٌّ لَطِيفٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ النُّورَ وَالْكَمَالَ وَالرَّحْمَةَ وَالْخَيْرَ كُلَّهُ مُضَافٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْوَسَائِطُ فِي ذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ وَالْمُقَابِلُ لِتِلْكَ الرَّحْمَةِ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ فَلَا بُدَّ أَوَّلًا مِنْ أَصْلٍ وَثَانِيًا مِنْ وَسَائِطَ وَثَالِثًا مِنْ حُصُولِ تِلْكَ الرَّحْمَةِ وَرَابِعًا مِنْ وُصُولِهَا إِلَى الْمُقَابِلِ لَهَا وَالْأَصْلُ الْمُقْتَضِي لِلْخَيْرَاتِ وَالرَّحْمَةِ هُوَ اللَّهُ وَمِنْ أَعْظَمِ رَحْمَةٍ رَحِمَ بِهَا عِبَادَهُ إِنْزَالُ كُتُبِهِ إِلَيْهِمْ وَالْمُوَصِّلُ لَهَا هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْمُقَابِلُ لَهَا الْمُنَزَّلَةُ عَلَيْهِمْ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ فَجَاءَ التَّرْتِيبُ عَلَى ذَلِكَ بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ.